التنوع الّلغوي والّلهجات في الجزائر
لقد اكتشفت الجزائر الّلغة العربية بقدوم الفتح الإسلامي إلى شمال إفريقيا. قبلها كانت البربرية اللغة السائدة. فلما دخل البربر الإسلام واختلطوا بالناطقين بالّلغة العربية, لغة الدين والديوان (الحكم), كان من الطبيعي أن ينال هذه الّلغة شيء من التغيير لأن ألسنة الأمازيغيين لم تتعود على الأصوات العربية والنطق بها, كما أن العرب لم تتعود النطق بالأمازيغية, مما أدى إلى تأثر اللغة العربية في هذه المنطقة (وفي المناطق الأخرى) باللغة الأصلية, فتبنت كثيرا من كلماتها وحتى من قواعدها النحوية. [كان مكتوبا: "فإذا عربيتهم يشوبها التحريف (؟) واستحال مع مرور الزمن إلى لون لغوي خاص متميز في نطاق العربية الواسع." هذا خطأ: نسبة استحالة (أوتغيّر) اللغة العربية في الجزائر تعادل نظيرتها في جميع أنحاء العالم العربي. وهي تقاس (في علم اللسانيات) بالابتعاد الزمني عن المورد (أو اللغة الام) أكثر بكثير مما تقاس بالاحتكاك مع لغة أخرى.] يقول ابن جني: "أعلم أن العرب تختلف أحوالهم في تلقي الواحد منها لغة غيره، فمنهم من يحف ويسرع فيقول ما يسمع، ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتة، ومنهم من إذا طال تكرار لغة غيره عليه ألصقت به ووجدت في كلامه"(7) وهذا ما حدث في لغة الجزائري من تأثير وتأثر بين العرب والبربر. وقد شهدت الجزائر في عصور ما قبل التاريخ، عدة غزاة، من، الفينيقيين ووندال، وبيزنطيين، وكان لهذا الأثر على سكان الجزائر، كما شهدت وجود رومان وخير دليل على ذلك المعالم والآثار الموجودة إلى يومنا هذا بأسمائها: "تيمقاد، أوراس، فتيمقاد تعني في الّلغة الأمازيغية القديمة المدينة"(8). وقد استمرت اللهجات البربرية أو المتنوعة: من القبائلية صغرى وكبرى والشاوية والترقية والزناتية والميزابية... كجزء من شخصية الجزائر ما تزال تحتفظ بألفاظ ودلالات تعود إلى ما قبل الميلاد.
يقول المقدسي الرحالة العربي (ت 380 ه): عندما نزل بالمغرب في القرن الرابع الهجري: "وفي المغرب الأفريقي عامة لغتهم عربية غير أنها منغلقة مخالفة لما ذكرنا في الأقاليم.(ولهم لسان آخر يقارب الرومي"(9) يذكر لنا المقدسي لهجة شمال إفريقيا والأندلس، أّنها لغة منغلقة مخالفة لبقية الأقاليم التي زارها، ونعتها بأنها ركيكة وهي تقارب لسان الروم، ولم يفهم لسان البربر. كما لا ننس الأثر الواضح الذي بصمه الاستعمار الإسباني في سواحل الغرب الجزائري، والاستعمار الفرنسي في لهجتنا الجزائرية. ورغم الصراع والمقاومة لرد سياسة فرنسا في محو الشخصية من تقاليد ودين ولغة إلا أّنه نجح على مدى عدة أجيال في جعل الجزائريين يتعاملون في حياتهم اليومية بالّلغة الفرنسية، وذلك لأسباب عديدة؛ تجعل التعليم مقتصرا على الفرنسية وحدها، وطول مدة الاستعمار، وعدم وجود نهضة حديثة كما حدث في المشرق. فسادت بذلك الّلهجات المحّلية مع الفرنسية كلغة مشتركة وكانت هذه سياسة فرنسا الّلغوية.
ولذلك استمت الّلهجة الجزائرية بالدخيل الفرنسي، واستعمال كلمات أجنبية من بقايا الفرنسية التي ما زالت حية في عاميتنا، وسنثبتها في المستوى الدلالي. وعملية التأثر شملت أيضا حّتى الّلغة الفرنسية وكثيرا من الّلغات العالمية التي تأثرت بالسامية، فقد قدم "بيار جيرو"(10) قائمة طويلة من كلمات عربية دخلت الفرنسية في عصور مختلفة. مع إقامة الدليل العلمي في المعاجم الفرنسية. كما أن للتجاور المكاني دوره في التبادل الثقافي بين الشعوب المتجاورة، وما يتركه ذلك من آثار في لغاتهم فلا تلبث أن تصبح ظواهر لغوية تميز إقليما تمييزا لغويا عن غيره، وتأخذ دور الاقتراض الّلغوي(11) اّلذي يتجاوز الألفاظ إلى الصيغ والتراكيب. وبهذا وصف سوسير الّلهجة الواحدة بالتميز والتفرد حيث يقول: "ولكل لغة لهجاتها وليس لواحدة منها السيادة على الأخرىات.(وهي في العادة متفرقة مختلفة.
المستوى الّلغوي في الّلهجة الجزائرية
إن الظواهر الّلهجية وعلاقته بالفصحى، وبالدخيل الفرنسي أو الإسباني أو التركي وغيره باعتبار أن العامية هي لغة قائمة بذاتها؛ بنظامها الصوتي، والصرفي والتركيبي والدلالي وقدرتها على التعبير.
أ - المستوى الصوتي
- الإبدال: ويتجلى في الاختلافات التي تبدو من تغير الأصوات، فتختلف بنية الكلمة ومعناها عن طريق ما سماه الّلغويون بالإبدال "وهو جعل حرف مكان حرف آخر مع إبقاء سائر أحرف الكلمة"(13)، ويشترط فيه أن يتقارب الصوتان مخرجا أو صفة(14) أي في المخرج أو يتحد في الصفة ماعدا الأطباق (سراط - صراط) وهو ظاهرة تكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بين الّلغات.
- الصوامت:
أصوات لغتنا نوعان، صامتة وصائتة وهي تختلف نطقا وسمعا وهي غالبا ما يصيب التغيير كلا النوعين، فالصامت تتغير بإحلال صوت محل صوت آخر يشبهه في المخرج، كنطق الذال دالا في لهجتنا، وكثير من الّلهجات العربية.
أما الصوائت فتتغير بتحويل الصائت القصير إلى صائت طويل أو العكس أو إبدال الفتحة بكسرة وهذا يندرج ضمن الإمالة.
الإبدال بين السين والصاد والزاي والصاد، وبين القاف والكاف والجيم القاهرية؛ أما الجيم المعطشة فهي تنطق من وسط الّلسان بينه وبين وسط الحنك(15). وهناك جيم بين الشدة والرخاوة، والجيم الخالصة الرخاوة وهي المعطشة وكلاهما من وسط الحلق وهي كثيرة الاستعمال لهجة في الفرنسي. "J"
إبدال الهمزة ياء، ويسمى في "الّلغة بالهمز والهت والضغط والنبر"(16). وإبدال الهمزة عينا والعين همزة، وهي ما تسمى بالعثعنة؛ عندما تبدل الهمزة عينا: قرآن يقال في عاميتنا "قرعان"؛ آذان - عذان. وحرف العين هو حرف حلقي، متوسط بين الشدة والرخاوة عند سيبويه، وهو صوت حلقي احتكاكي مجهور عند المحدثين(17). كما تنطق العين الهمزة خاصة في الألقاب تماثلا مع الّلغة الفرنسية.
إبدال الهمزة واوا أو فاء والميمباء، والذال والظاء والضاد دالا: ومثال على ذلك: هذا - هدا، بيض - بيد، ظلمة - دلمة. وقع الإبدال بينهما من الناحية الصوتية؛ فالدال صوت سني انفجاري، والذال تنطق بين الثنايا، وهو احتكاكي مجهور، ويشتركان في الانفجار(18). كما أن الظاء تخرج من الثنايا وهو حرف إطباق؛ أي تقعر الّلسان إلى أسفل في مقابل الحنك الأعلى فيحدث رنين أو تفخيم(19)، والضاد إطباقي أيضا، وتكاد الذال لا تنطق في عاميتنا مع الظاء والضاد، فكأننا ننطق الدال مفخمة في ضرب وضوء.
إبدال الثاء تاء، والقافهمزة؛ والكاف شينا وتسمى بالشنشنة حيث جعل الكاف شينا أو الهاء شينا، وهنا يتعلق الأمر بالوظيفة النحوية في تركيب جملة النفي وهي كثيرة في اللهجة الخليجية وتستعمل للتفريق بين المذكر والمؤنث فتبدل الكاف شينا؛ كما تقلب الواو ياء أو العكس وهو تعاقب الواو مع الياء وتسمى بالمعاقبة أو الضمة مع الكسرة بالنسبة للصوائت. كما تبدل لام التعريف ميما وتسمى بالطمطانية (أمبارح أي البارحة)، وتبدل الشين سينا.
- الصوائت:
إن نطق الصوائت يقوم على شكل ممر الهواء المفتوح فيما فوق الحنجرة، فالصائت هو صوت مجهور لا يسمع له انفجار أو احتكاك(20)، والصوائت هي الكسر والضم والفتح وهي قصيرة، والواو والياء والألف وهي طويلة وهي أصوات مد ولين أيضا، الكسر والضم؛ كسر حرف المضارعة. وفي المقاطع الممدودة في بعض الأفعال عند التصريف.
ب- المستوى الصرفي
- الأفعال: في الفعل الثلاثي المجرد: يكتب - يشرب، بالكسر والفتح، وبالضم في الأمر
والماضي "رحت" - "روح" هذا بالنسبة للمبني للمعلوم، أما صيغة المبني للمجهول فلا توجد في لهجتنا. في التصريف لا توجد صيغة المثنى، كما أن الضمير "أنتما" يستعمل مع الفعل كالآتي: أنتما كتبوا وليس "أكتبا" للمثنى والجمع المذكر والمؤنث.
ج - المستوى النحوي
المتتبع للمستوى النحوي في الّلهجات يجد صعوبة وذلك لوجود اختلافات بينها، ولكّنها اختلافات قليلة وخاصة في بناء الجملة، ولهذا لا يمكن أن نطلق كلمة نحو على هذه الّلهجة أو أخرى، إلا ما ورد من أبواب النحو المعروفة بصورة عامة. إن أغلب ما ورد في اللهجة الجزائرية لا يخرج عن الكون العام للقاعدة النحوية العربية، فليس ث مة خصائص لّلهجة واضحة، ونلمس في تراكيب لهجتنا في غرب الجزائر أّنها تشترك مع معظم مناطق الجزائر، وحتى بعض لهجات العربية.
د - المستوى الدلالي
يتصل هذا المستوى بالألفاظ ودلالاتها، وتنوع معانيها من منطقة لأخرى، بل حّتى في المنطقة الواحدة، وقد نشأ عن هذا التنوع المشترك والمتضاد والترادف وعرف ذلك قديما في لغات القبائل، كما تتصف بعض الألفاظ بالانتقال أو المجاز في معناها تخصيصا أو اتساعا. ومن ألفاظ العامية الجزائرية ما نجد أصوله عربية فصحى، أو من الدخيل إسباني أو فرنسي أو تركي، أو غيرها من اللغات. وقد حصرنا بعض من هذه الألفاظ بين أسماء وأفعال وصفات واّلتي شاعت على لسان الجزائري في منطقة الغرب خاصة وقد تكون مشتركة في كل .(مناطق الجزائر(21 وهناك عدد لا حصر له من الدخيل في لهجتنا إلى درجة أن أهل المشرق يعتبرون لهجتنا فرنسية أكثر منها عربية لشدة ورود هذه الكلمات في تكلمات العامية. فلهجتنا جزء من الفصحى وإن دخلت عليها أصول لهجية ولغوية قديمة أو حديثة، فهي تشكل جانبا جديرا بالنظر والدراسة.