نبذة النيل والفرات:
بعد فراغه من أجزاء نقد العقل العربي، شغل بال الدكتور محمد عابد الجابري موضوعاً يتعلق بكتابة شيء ما في "العقل الأوروبي" ذاك ما كان يميل إليه حتى صيف 2001؛ غير أن ما حدث في أيلول/سبتمبر من نفس السنة، وما تلا ذلك من أحداث جسام وردود فعل غاب فيها العقل، غيابه في الفعل الذي استثارها والذي هو نفسه نوعاً من رد الفعل، وما رافق ذلك من هزات خطيرة في الفكر العربي والإسلامي والأوروبي، كل ذلك جعله ينصرف إلى التفكير في "مدخل إلى القرآن"، مدفوعاً في ذلك برغبة عميقة في التعريف به، للقراء العرب والمسلمين وأيضاً للقراء الأجانب، تعريفاً ينأى به عن التوظيف الأيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين، ممن قد يصدق فيهم القول المأثور "الإنسان عدو ما يجهل"، على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع، بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل، عالم ما زال قائماً إلى اليوم، هو "العالم العربي الإسلامي": هذا العالم الذي يجر معه ليس الماضي وحسب؛ بل "المستقبل الماضي" كذلك، في وقت أضحى فيه سوقاً لترويج كثير من الشعارات غير البريئة، تصاعد من هنا وهناك، شعارات من قبيل "صراع الحضارات" و"حوار الحضارات"، و"حوار الثقافات"، و"حوار الديانات"، وأخيراً وليس آخراً "الإصلاح"، ليس الإصلاح السياسي وحسب، بل "الإصلاح الديني" والثقافي وهلم جراً!
من هنا يقول الكاتب بأن تفكيره في تأليف هذا الكتاب قد جاء، بصورة ما، نوعاً من الاستجابة لظروف ما بعد أيلول/سبتمبر 2001، تماماً مثلما يمكن النظر إلى الكتابه "نحن والتراث"، وبالتالي: "نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة، كنوع من الاستجابة لظروف "النكسة" التي عاشها العالم العربي بعد 1967 بما في ذلك حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 وما شاع في ذلك الوقت من استبشار بـ"الصحوة الإسلامية" التي رافقتها، أو تجاوزتها أو حلت محلها الثورة الخمينية في إيران. وبعد فهذا مدخل إلى القرآن يتألف من جزأين: الأول "في التعريف بالقرآن" وهو الذي بين يدي القارئز وأما الثاني والذي يصدر آنفاً فهو في "موضوعات القرآن الكريم". وبالعودة، فإن هذا الجزء الأول الذي نقلب صفحاته، هو يتالف من ثلاثة أقسام: قسم تمّ تخصيصه لاستكناه وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث، وقسم تتبع الكاتب من خلاله "مسار الكون والتكوين" للقرآن الكريم. أما القسم الثالث فقد حلل فيه القصص القرآني. ومع أن هذا القسم الأخير قد يبدو وكأنه مجرد ملحق، إلا أنه في الحقيقة بمثابة المرآة التي تعكس بجلاء موضوعات القسمين السابقين، أن اعتماد الدكتور الجابري ترتيب النزول، وليس ترتيب المصحف، في تتبع قصص القرآن، قد مكنه من إبراز وظيفة هذا القصص كوسيلة وسلاح للدعوة المحمدية في مواجهة خصومها، الأمر الذي ساعده على إبراز التساوق بين السيرة النبوية وتطور مسار الكون والتكوين الخاص بالقرآن، وهذا ما كان ليتأتّى له لو أنه سلك مسلك من كتبوا في هذا الموضوع من الكتاب والمؤلفين، القدامى منهم والمحدثين، الذين تعاملوا مع القص القرآني كأحداث "تاريخية" اتخذوا مرجعية لها ما عرف بـ"الإسرائيليات" بدل التعامل معه كـ"أحداث قرآنية" لها سبب نزول خاصة بها، وبالتالي أهداف ومقاصد خاصة. وأخيراً يبين الكاتب بأنه وفي الجزء الأول من كتابه هذا سياسة وتاريخ ومتسائلاً يقول: وهل يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ؟ وهل يمكن الفصل في القرآن بين الدين والدنيا؟ ثم هل يمكن إصلاح حاضرنا من دون إصلاح فهمنا لماضينا؟ أسئلة تستعيد لديه المنهج، الرؤية الذي تبناه منذ "نحن والتراث" والذي يتلخص في جملة واحدة: جعل المقروء معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في الوقت ذاته".