محاسبة النفس صالح العليوي دار القاسم | أرسلها لصديق عرض للطباعة إضافة مرجع تصحيح خطأ عدد القرّاء: 26528 |
الحمدلله الذي وعد من حاسب نفسه، وأخذ بزمامها الآمن يوم الوعيد أحمده، سبحانهشرّف أولياءه، وتفضل عليهم بيوم المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيزالحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير داع إلى المنهج الرشيد، والهدىالسديد، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم قدوة الناس فيمحاسبة النفس، حذراً من يومٍ هوله شديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لامفرّ منه ولا محيد، وسلم تسليماً كثيراً.أما بعد فيا عباد الله. أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومحاسبة أنفسكم،فإن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها، وسعادتها، يقولالله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّاقَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَاتَعْمَلُونَ [الحشر:18]، قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم.وقد قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:7-10]، قال الإمام البدوي رحمه الله في تفسيره: قال الحسن: معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا أهلكها وأضلها وحملها على المعصية.وفي الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: { الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } [رواه الإمام أحمد والترمذي]. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا،فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرضالأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] )، ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: ( المؤمن قوّام على نفسهيحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم فيالدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غيرمحاسبة ).. وقال وهب فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: ( مكتوب في حكمةآلداود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه،وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبهويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب ). وقالميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة منالشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بما لك). وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسهفي الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياتهوشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ) [أخرجه البيهقي في الوهدوابن عساكر]. ونقل ابن الجوزي في ذم الهوى عن السلمي قال: سمعت أبا الحسينالفارسي يقول: سمعت أبا محمد الحريري يقول: من استولت عليه النفس صارأسيراً في حكم الشهوات محصوراً في سجن الهوى. وحرَّم الله على قلبهالفوائد، فلا يستلذ كلامه ولا يستحليه، وإن كثر ترداده على لسانه، وقالالشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله في كتابه موارد الظمآن: ( فإذا علمأنه مناقش في الحساب عن مثاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةأحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات، تحقق أنه لا ينجيه من هذهالأخطار إلا إعتماده على الله، ومعونته على محاسبة نفسه ومراقبتهاومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسبنفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن متقلبهومآبه.تجهزي بجهاز تبلغين به *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثاًوحاذري سقطة الذل وانكسري *** باب كريم كم هدى وعفاواخشي حوادث صرف الدهر في مهل *** واستيقظي لا تكوني كالذي سقطافي هوة الذل كان فيها قطع مدته *** فوافت النفس سعيها كما سلفاقال ابن قدامة في منهاج القاصدين: ( واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التيبين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمهاوتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإنأهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أنتصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.واعلموا عباد الله: أن محاسبة النفس أنواع.قال ابن القيم رحمه الله ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده.فالنوع الأول: الذي هو قبل العمل فهو: أن يقف عند أول همهوإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه، قالالحسن رحمه الله: ( رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كانلغيره تأخر ).النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعهاعلى الوجه الذي ينبغي. ثم يحاسب نفسه هل قام بطاعة الله على وجه يرضي اللهتعالى أم قصر بذلك؟الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد، لِمَ فعله؟ وهل أرادبه وجه الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.ولمحاسبة النفس آثار ومنافع عظيمة منها:1 - الإطلاع على عيوب النفس ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها.2 - المحاسبة توجب للإنسان أن يمقت نفسه في جانب حق الله عليه،وهذه كانت حال سلف الأمة، كانوا يمقتون أنفسهم في مقابل حق الله عليهم.روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه قال: ( لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً ).وقال محمد بن واسع محتقراً نفسه وهو من العباد: لو كان للذنوب ريحما قدر أحد أن يجلس معي. قال ابن القيم رحمه الله: ( ومقت النفس في ذاتالله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبد به من ربه تعالى في لحظة واحدةأضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل ). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ( منمقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته ).3 - ومن ثمار محاسبة النفس إعانتها على المراقبة، ومعرفة أنه إذاإجتهد بذلك في محياه إستراح في مماته، فإذا أخذ بزمامها اليوم وحاسبهاإستراح غداً من هول الحساب.4 - ومن ثمارها أنها تفتح للإنسان باب الذل والإنكسار لله، والخضوع له والإفتقار إليه.5 - ومن أعلى ثمارها الربح بدخول جنة الفردوس وسكناها، والنظر إلىوجه الرب الكريم سبحانه، وإن أهمالها يعرض للخسارة ودخول النار، والحجب عنالله وصَلَى العذاب الأليم.وترك محاسبة النفس وإهمالها، له أضرار عظيمة، قال ابن القيم رحمهالله تعالى: ( وأضر ما عليه: الإهمال، وترك المحاسبة والإسترسال، وتسهيلالأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمضعينيه عن العواقب ويمشي الحال ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظرفي العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأَنِس بها، وعسر عليهفطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوفوالمعتاد ).إذا ما أطعت النفس في كل لذة *** نسيت إلى غير الحجا والتكرمإذا ما أجبت النفس في كل دعوة *** دعتك إلى الإمر القبيح المحرمفاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم، فإن صلاح القلب وسلامتهبمحاسبة النفس، وفساده وعطبه بإهمال النفس والإسترسال في ملذاتها،وشهواتها وإهمال ما به كمالها، فاحذروا ذلك تُعِزُّوا أنفسكم وتسعدوا عندلقاء ربكم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.